بقلم:
خالد زكى سرور
يشكل الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ركناً من أركان الإيمان في الثقافة الإسلامية، ولطالما أعطى هذا الإيمان راحة نفسية للمؤمنين أمام ما صادفهم من محن ومصائب، ردوها إلى القضاء والقدر، ومن ثم إرادة الله ومشيئته، وبالتالي لا حول ولا قوة لهم، وكل ما عليهم هو الاستكانة والدعاء لله أن يتلطف بقضائه. ووفق هذه الرؤية أصبح الله تعالى مسئولاً عن ولادة طفل معاق لهذه العائلة، ومرض رب الأسرة في تلك، وحريق منزل زيد، وخسارة أموال عمرو، وأُلحقت به كل الكوارث، فإذا أصابت قوماً مؤمنين كانت امتحاناً وإن كانوا كافرين باتت عقاباً، وفي الحالتين فهي “قدر ومكتوب”، وماهو “مكتوب” لن نستطيع تغييره ولا خيار لنا فيه، أما الحساب فهو على أساس أن ما أقدمنا عليه لم نكن نعلم أنه “مكتوب” لكننا اخترناه، وبالتالي سنحاسب عليه.
والسؤال الذي لا يجد جواباً هنا هو: “هل الله تعالى يهوى عذابنا كي يختار لإنسان ما أن يكون قاتلاً ثم يعاقبه في الآخرة” إنه إجحاف بحق الله لا يليق بجلاله وعظمته وعدالته التي وعدنا بها.
ورب قائل: وهل تكذب قوله تعالى: “قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَاهُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ”. (التوبة 51).
ونقول “حاشا لله”، لكن الالتباس يكمن في فهم معنى “كتب”، وهو جدير بالتوقف عنده، لا سيما أن أزمة العقل العربي تعود في أحد أسبابها إلى هذا اللبس، فبالنسبة للثقافة الموروثة كل ما يصيبنا مُقدر منذ الأزل ولا يمكن تغييره، ونحن مسيرون لا نملك من أمرنا شيئاً. فإذا نظرنا في معنى “كتاب” وجدنا أنه بالضرورة مؤلف من مجموعة عناصر شكلت موضوع ما، ولا يمكن أن يكون من عنصر واحد، وكل ما حولنا هو كتب، يحتاج كل منها لاجتماع عناصره كي يتحقق، فالليل كتاب ينتج عن دوران الأرض حول نفسها ووصولها لجهة معاكسة للشمس، والنهار كتاب، والرياح كتاب والمرض كتاب، والموت كتاب، والطعام كتاب فيه آلاف المواضيع، وإقامة الصلاة كتاب، وانتقال الثروة كتاب، وهذا ما قال عنه الله تعالى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (النبأ 29) وكل ما يحدث معنا في هذا العالم هو مما موجود في هذا الكون من كتب، فلن نمرض بمرض خارج عما هو ضمن الكرة الأرضية، ومهمة الطب البحث في عناصر كتاب مرض معين للوصول إلى الوقاية أو العلاج، والواقع الحتمي لأي حدث لا بد أن يسبقه كتاب هذا الحدث، وكل الظواهر الطبيعية والكوارث والأمراض لا تحدث إلا من خلال قوانين الوجود التي وضعها الله تعالى، ومهمة الإنسان دراسة ما حوله ليستطيع التحكم في محيطه بما فيه خير الإنسانية. والموت كتاب له أسباب لا نهائية، فهو كقانون لن يزول “قدر”، لكن يمكن للإنسان التحكم بأسبابه وبالتالي تأجيله. { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلا} (آل عمران 145)، أي يمكن أن نقضي لنؤجل أقدارنا، وقضاؤنا يحتاج لمعرفة، وكلما ازدادت معرفتنا بالموجودات حولنا كلما زاد قضاؤنا فيها، والموت قدر من الله، لكن القتل قضاء من الإنسان، فالله يقضي والإنسان يقضي، وكل الأحداث تصبح قدراً لا يمكن تغييره بعد وقوعها لا قبله، والله تعالى كامل المعرفة ووضع أمامنا احتمالات عدة في كل الأمور، وهو سبحانه يعلمها كلها بنفس الدرجة، ولحظة اختيارنا يتم استنساخ ما عملنا في الإمام المبين ثم نُحاسب عليه يوم القيامة، والله تعالى لم يقرر منذ الأزل أن يتزوج ذاك من تلك، ولم يقض أن يضل أبو لهب، لكن هذا الأخير وضع نفسه في طريق اللاعودة، بحيث لم يكن ليتراجع عن كفره بالله وبرسوله ولا عن حربه المعلنة ضد الدعوة الجديدة.
والله تعالى خلق الإنسان وكرمه بنفخة الروح، وبموجبها أصبح جديراً بسجود باقي المخلوقات، وعلى أساسها أصبح مُخيراً مُحترم الإرادة في كل ما يعنيه، وهو المخلوق الوحيد الذي يشاء، ومشيئته من مشيئة الله. { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير 29)، والمشيئةهي إمكانية اتخاذ القرار من ضمن الخيارات المتعددة، ونحن نشاء لأن الله أراد لنا ذلك، بينما أراد الفقهاء أن تنعدم مشيئتنا لنكون عبيداً لا نملك من أمرنا شيئاً، وتكون الحياة الدنيا مجرد مسرحية هزلية، كل ما فيها مُبرمج مسبقاً، ويغدو حسابنا في الآخرة ضرب من الملهاة العبثية.
فإذا توصلنا إلى قناعة بأننا نستطيع القضاء في أمورنا، سنحاول العمل جدياً لتغيير أحوالنا، وسنعلم أن الله لا يعاقب ذا الاحتياجات الخاصة ولا أهله، ولا يعاقب أحد بحرمانه من الأطفال، ولا بموت قريب أو حبيب، وعلاج الأمراض يكون بالمعرفة والعلم، والله يشفينا أو لا يشفينا، وضحايا الحروب يجب محاكمة قاتليهم، وحوادث السير يمكن التخفيف منها بدراسة شروط السلامة، وهكذا.
خلاصة القول إن “الكتاب” فيه عناصر واختيارات واحتمالات، والله “كتب” كل شيء بمعنى أن كل ما في الكون متعدد احتمالي يحمل خيارات، والله تعالى اختار لنفسه الرحمة بعباده ولديه اختيار آخر هو العذاب، ولذلك قال: “كتب” {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.(الأنعام 54).
وما يصيبنا من مصائب هي من أنفسنا أولاً وأخيراً، ويمكننا أن نختار مما هو “مكتوب” ما فيه خيرنا وخير من حولنا.