تكتبها: تغريد محمود عبد الغفار
الفرقة الثالثة – لغة انجليزية – كلية لغات و ترجمة – اكاديمية السادات للعلوم الادارية
تجلس الجدة امام المدفئة تحتسي شرابها ،و هي تردد … تلك القصيدة التي تحمل لها الكثير و الكثير من الذكريات: يا شهيد، اتخدت غدر لكن دمك مرحش هدر…
فديت بلادك بدمك دون اعتراض ..
مهو اصلك جندي محارب…
لا اليوم الخوف عرف لقلبك طريق…
ولا حتى كان في عقلك ذرة شك…
اتشاهد على موتك شعب من اصغر طفل بريئ لجدي و جدك و شيوخنا…
ايوا ميت لكنك عايش في عيون مين عرفك و مين بس سمع عنك…
عايش في نظرة ام بتضحك بفخر و في نص الضحكة بتهرب دمعة بتناجي بوجع قلب…
فراقك سهل و لكنه واجب …نكدب لو قولنا هنتعود و ناخد على غيابك…
ايوا عارف انك موجود و سامع و حاسس..
ايوا فاهم انه لو بايدك لتموت الف مرة لترابها…
اصلها في القلب قاعدة..و مين يقدر يكون زيك دا انت شهيد متكرم في سماه …
حقك راجع راجع ضحيت من غير ما تخاف زي ما قبلك عملوا…
لكنك سايب وراك جيش حالف ما ينام قبل ما حقك يرجع….
يا شهيد ،اتخدت غدر لكن دمك مرحش هدر..
دخل أحمد الغرفة بعد أن سمع جدته تردد تلك القصيدة التي لطالما سمعها ترددها ،و خصوصا في هذا الوقت من العام، و هو شهر اكتوبر الذي استشهد فيه والدها.
ـ أحمد: مازلتي ترددين تلك القصيدة يا جدتي،لقد مرت الكثير من الأعوام
ـ الجدة: بالفعل يا بني، مرت الكثير من الأعوام و لكن تلك الأعوام لن و لم تطف ذلك الشوق المكبوت لمن فقدناهم.
ـ أحمد: كيف استشهد الجد صابر. احكي لي عنه ،فأنا اعرف إنك تحبين الحديث عنه.
ـ الجدة : و ما أقرب الحديث عنه لقلبي، في حياتي لن يكون هناك بطلا سواه فقد استشهد و لكنه حي يرزق في قلبي و قلوب الجميع.
كنت في الثامنة عشر من عمري، مازلت أذكر تلك الليلة و كأنها البارحة. لم نكن نعلم هل حقا ستقام الحرب ؟ هل سنسترد حق و دم شهدائنا ؟ فأوضاع الجيش لم تكن توحي بأنه ينوي بدء الحرب .ففي ذلك الوقت تم تسجيل اسماء الضباط الراغبين في تأدية مناسك العمرة، و تنظيم دورات رياضية عسكرية ،و غيرها من الشواهد الغريبة و هذا ما سمعناه من عمي اللواء محمود عبد العال؛ فقد كنا نسكن معه في فترة غياب والدي في الجيش.
ـ أحمد: و كيف حارب الجيش في النهاية إذا كانت هذه هي أوضاع الجيش في ذلك الوقت؟
ـ الجدة: آه منك يا بني، دائما هكذا تتعجل صبرك علي فلم تنته الحكاية بعد.
في السادس من اكتوبر73، بعد أن صلينا الفجر وجدت عمي يمشي متعجلا نحو الباب و خرج دون حتى ان يخبرنا الي اين فهو في العادة لا يخرج في مثل هذا الوقت و خصوصا بعد ان ساءت الاوضاع .فالاستعمرار الصهيوني لم يكبحه أحد في ذلك الوقت و كانوا يشنون هجمات مفاجاة على الأهالي ،لذلك كان يحاول عمي البقاء في البيت أطول مدة ممكنة لحمايتنا إن تطلب الأمر. لا أعلم لماذا في ذلك الوقت ؟ شعرت بتلك الغصة في قلبي ،ذلك الشعور و كأن شيئا يقبض على قلبك و كأن نور شمسك انطفئ فجأة و لا تعلم السبب.حاولت تجاهل ذلك الشعور البغيض و شرعت في تنظيف المنزل مع أمي و زوجة عمي.و بحلول الظهر وجدنا الشارع يعم بالفوضى وجرس الباب يقرع بشدة ؛ذهبت لافتح الباب و وجدت أخي يلهث جراء صعوده السلم جريا،قال لي لاهثا من بين أنفاسه : افتحوا الراديو بسرعة اسرعت زوجة عمي تفتح الراديو و سمعنا التالي “هنا القاهرة…جاءنا البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة…قام العدو في الساعة الواحدة و النصف من بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتي الزعفرانة و السخنة في خليج السويس بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي من الخليخ،و تقوم قواتنا حاليا بالتصدي للقوات المغيرة…هنا القاهرة”
ـ أحمد: أليست تلك المنطقة التي كان مكلف الجد صابر بالخدمة بها ؟
ـ الجدة:بلى، دعني أكمل لك الحكاية يا بني ولا تقاطعني كثيرا ايها المشاكس فأنت تعلم أن ذاكرتي لم تعد كالسابق. المهم بعد أن سمعنا ذلك الخبر بدأت أمي في البكاء . أما أنا فلم استوعب ما سمعت كنت أكذب ذلك الشعور و لا أريد تصديقه ،فالجميع يعلم كم كنت متعلقة بأبي. و سمعنا البيان الثاني و الذي كان:”هنا القاهرة…جاءنا الان من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي… بيان رقم 2 …ردا على العدوان الغادرالذي قام به العدو ضد قواتنا …تقوم حاليا بعض تشكيلاتنا الجوية بقصف قواعد العدوو أهدافه العسكرية في الأراضي المحتلة….هنا القاهرة”و لحق به بيانا آخر و كان:”هنا القاهرة … جاءنا الأن من القايادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي … إلحاقا للبيان رقم 2 نفذت قواتنا الجوية مهامها بنجاح و أصابت مواقع العدو بإصابات مباشرة و عادت جميع طائرتنا الي مواقعها سالمة عدا طائرة واحدة … هنا القاهرة” . لم نعلم هل نفرح بذلك النصر أم نقلق لأننا لا نعرف من ذلك الشهيد و لكن دموع أمي لم تتوقف و أنا لم أتوقف عن التمتمة بالدعاء أن يعود أبي سالما.تتالت البيانات عبر الراديو حتى سمعنا:”هنا القاهرة … إليكم أيها المواطنون البيان رقم 7 الذي صدر عن القيادة العامة للقوات المسلحة من اكتوبر1973 ….بسم الله الرحمن الرحيم ..نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة و تم الاستيلاء على منطقة الشاطئ الشرقي ..و تواصل قواتنا حاليا قتالها مع العدو بنجاح …كما قامت قواتنا البحرية بحماية الجانب الأيسر لقواتنا على ساحل البحر الأبيض المتوسط،و قد قامت بضرب الأهداف الهامة للعدو على الساحل الشمالي لسيناء و أصابتها اصابة مباشرة … هنا القاهرة” صاح الجميع ” الله اكبر…الله اكبر” ورجت الهتفات و الأصوات البلد كلها. في الأيام التالية بدأت أنا و شباب و بنات المنطقة و العائلة بالذهاب إلي المستشفيات و مساعدة المصابين ،في حين كانت الأمهات تقوم بعمل وجبات للعاملين و المصابين بالمستشفيات في محاولة للمساعدة . كانت الفرحة و الفخر و شعور الحرية يملئون صدر الجميع ؛ و لكن بالنسبة لي و لعائلتي فقد كنت مازلت قلقة على مصير والدي و على عمي الي وجدنا عمي يدلف الي البيت بعد اسبوع و لم نحتاج الي أن نسأله عن شيئ فدموعه التي ترقرقت في عينه حين رأنا اخبرتنا كل شيئ . حكى لنا عمي ما قصه عليه احد أصدقاء أبي و كيف حارب ببسالة دون خوف و اعطانا ظرفا اعطاه له صديق أبي ؛كان يحتوي الظرف على صورة تذكارية لي أنا و أبي و أمي و أخي الصغير و ورقة مطوية ، قال لي عمي : و كأن والدك كان يشعر أنها أخر هجماته . لم أفهم في البداية و لكن حين بدأت في قرأتها كانت : متخفيش يا بنتي دا قدر و محتوم ..
لو مهما يكون مسيره يكون …
متخفيش يا بنتي دا جيل سلم لجيل إسم و روح ،ميراث حضارة من قديم الأزل …
متخفيش يا بنتي و متزعليش لو يوم طالتني ضربة عدو …
دا قدري محتوم مكتوب من يوم ما عيني شافت نور الدنيا…
عرفت الحق و أمنت به لا في يوم خوفت ولا اتهزيت…
متخفيش يا بنتي دا أنتي بنت بطل عاش عظيم وسط جيله و مات شهيد و أخذ مكانة في سماوات ربك بيحسد عليها…
متزعليش يا بنتي أنا شايفك حاسس بيكي …
أوعي في يوم ينزل منك دمعة حزن لمصيري …
دا انتي لو شوفتي مكانتي والله لكنتي تحسديني …
دا أنا جالس وسط ملائكة في فردوسه الأعلى…
متزعليش يا بنتي مهو قبلي سلم لجيلي و أهو اليوم بسلم رايتي لغيري لحد ما يأخذها لبر أمان…
هنا انهمرت دموعي كما لو انني لم ابك من قبل .
ـ أحمد و هو يربط على ظهر جدته في حنو: لماذا تبكين الأن يا حبيبتي ،أسف إذا كنتي تذكرتي ما يجرح قلبك.
الجدة و هي تمسح تلك الدموع التي هربت من عينيها : لا تتأسف يا بني، فأنا لم انس قد و أما دموعي ،فهي ليست بسبب ما حكيته الأن ،دموعي لن تجف إلي أن ألقاه في الجنة بإذن الله ، و يكفي أن كل عام في ذكرى السادس من اكتوبر يتفاخر شعبنا بذلك النصر العظيم و يترحم على شهدائنا الشعب اجمع.
ـ أحمد: لكن هناك ما لم أفهمه يا جدتي، كيف قال عمك إن هناك ضباط يستعدون لتأدية مناسك الحج و لم يكن الجيش مستعدا للحرب لكن الجيش حارب ببسالة و في وقتا غير متوقع ايضا.
ـ الجدة: كان ذلك فقد للتمويه ليس أكثر لأن الضباط كانوا مكلفون بنشر أخبار كاذبة عن جيشنا حتى يتلقاها الجواسيس المندسون وسطنا و يمدون جيش العدو بأخبار كاذبة.
ـ أحمد:إنه جيشا عظيما حقا يا جدتي .
ـ الجدة: أتمنى من الله أن تصبح يوما ما ضابطا ذو شأن عظيم بالقوات المسلحة يا بني.
هذا ما حكته لي جدتي حين كنت طفلا صغيرا . نعم لقد أصبحت ضابطا بالقوات المسلحة كما كانت تتمنى جدتي رحمها الله ، ليس فقد كما كانت تتمنى و لكن هذه كانت رغبتي . هذا أنا اليوم أمامكم نقيب طيار أحمد صابر.
هذه حكاية فخر و عزة حكاية بسالة جنود و شهداء الارض . فيمكن للشر الإنتصار و لكن ليس في كل الأحيان ، فعندما يكون الموضوع هو الوطن ينقلب الجنود لوحوش تحارب على الأرض دفاعا عن موطنها. فالوطن حياة و شمس تشرق دوما بالأمل مهما طالت الغيوم و العواصف ؛ لأن الوطن هو اساس كل شيء بدونه تكون شريدا في الأراضي فليست كل أرض وطن ، لذلك فالوطن أهم من الأشخاص حتى و إن كانوا أقرب الأشخاص إلينا . الوطن حياة أبدى من الأبناء.
تمت